الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
{ولقد صبحهم بكرة عذاب مستقر}..وهو ذلك العذاب الذي عجل بذكره في السياق.وهو الحاصب الذي طهر الأرض من تلك اللوثة ومن ذلك الفساد.ومرة أخرى تتغير طريقة العرض، ويستحضر المشهد كأنه اللحظة واقع. وينادى المعذبون وهم يعانون العذاب:{فذوقوا عذابي ونذر}!!!ثم يجيء التعقيب المألوف، عقب المشهد العنيف:{ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر}؟وتختم هذه الحلقات بحلقة خارج الجزيرة، ومصرع من المصارع المشهورة المذكورة. في إشارة سريعة خاطفة:{ولقد جاء آل فرعون النذر كذبوا بآياتنا كلها فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر}..وهكذا تختصر قصة فرعون وملئه في طرفيها: مجيء النذر لآل فرعون وتكذيبهم بالآيات التي جاءهم بها رسولهم. وأخذهم بعد ذلك أخذ عزيز مقتدر. والإشارة إلى العزة والاقتدار تلقي ظلال الشدة في الأخذ؛ وفيها تعريض بعزة فرعون واقتداره على البغي والظلم. فقد ضاعت العزة الباطلة، وسقط الاقتدار الموهوم. وأخذه الله- هو وآله- أخذ عزيز حقًا مقتدر صدقًا. أخذهم أخذًا شديدًا يناسب ما كانوا عليه من ظلم وغشم وبطش وجبروت.وعلى هذه الحلقة الأخيرة على مصرع فرعون الجبار. يسدل الستار..والآن. وقد أسدل الستار على آخر مشهد من مشاهد العذاب والنكال. والمكذبون يشهدون؛ ويتلقى حسهم إيقاع هذه المشاهد.. الآن والمصارع المتتالية حاضرة في خيالهم، ضاغطة على حسهم.. والآن يتوجه إليهم بالخطاب؛ يحذرهم مصرعًا كهذه المصارع. وينذرهم ما هو أدهى وأفظع: {أكفاركم خير من أولئكم أم لكم براءة في الزبر أم يقولون نحن جميع منتصر سيهزم الجمع ويولون الدبر بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر إن المجرمين في ضلال وسعر يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر إنا كل شيء خلقناه بقدر ومآ أمرنآ إلا واحدة كلمح بالبصر ولقد أهلكنآ أشياعكم فهل من مدكر وكل شيء فعلوه في الزبر وكل صغير وكبير مستطر}.إنه الإنذار بعذاب الدنيا وعذاب الآخرة؛ وإسقاط كل شبهة وكل شك في صدق هذا الإنذار وسد كل ثغرة وكل طمع في الهرب والفكاك؛ أو المغالطة في الحساب والفرار من الجزاء!تلك كانت مصارع المكذبين. فما يمنعكم أنتم من مثل ذلك المصير؟ {أكفاركم خير من أولئكم}.. وما ميزة كفاركم على أولئكم؟ {أم لكم براءة في الزبر}.. تشهد بها الصحائف المنزلة، فتعفوا إذن من جرائر الكفر والتكذيب؟ لا هذه ولا تلك. فلستم خيرًا من أولئكم، وليست لكم براءة في الصحائف المنزلة، وليس هنالك إلا لقاء المصير الذي لقيه الكفار من قبلكم في الصورة التي يقدرها الله لكم.ثم يلتفت عن خطابهم إلى خطاب عام، يعجب فيه من أمرهم: {أم يقولون نحن جميع منتصر}.وذلك حين يرون جمعهم فتعجبهم قوتهم، ويغترون بتجمعهم، فيقولون: إنا منتصرون لا هازم لنا ولا غالب؟هنا يعلنها عليهم مدوية قاضية حاسمة: {سيهزم الجمع ويولون الدبر}..فلا يعصمهم تجمعهم، ولا تنصرهم قوتهم. والذي يعلنها عليهم هو القهار الجبار.ولقد كان ذلك. كما لابد أن يكون!قال البخاري بإسناده إلى ابن عباس: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال وهو في قبة له يوم بدر: «أنشدك عهدك ووعدك اللهم إن شئت لم تعبد بعد اليوم في الأرض أبدًا. فأخذ أبو بكر رضي الله عنه بيده، وقال: حسبك يا رسول الله ألححت على ربك! فخرج وهو يثب في الدرع، وهو يقول: {سيهزم الجمع ويولون الدبر}».وفي رواية لابن أبي حاتم بإسناده إلى عكرمة، قال: «لما نزلت {سيهزم الجمع ويولون الدبر} قال عمر: أي جمع يهزم؟ أي أي جمع يغلب؟ قال عمر: فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يثب في الدرع، وهو يقول: {سيهزم الجمع ويولون الدبر}. فعرفت تأويلها يومئذ!».وكانت هذه هزيمة الدنيا. ولكنها ليست هي الأخيرة. وليست هي الأشد والأدهى؛ فهو يضرب عن ذكرها ليذكر الأخرى: {بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمرُّ}..أدهى وأمر من كل عذاب رأوه أو يرونه في هذه الأرض. وأدهى وأمر من كل مشهد رأوه مرسومًا فيما مر. من الطوفان، إلى الصرصر. إلى الصاعقة. إلى الحاصب. إلى أخذ فرعون وآله أخذ عزيز مقتدر!ثم يفصّل كيف هي أدهى وأمر. يفصل هذا في مشهد عنيف من مشاهد القيامة: {إن المجرمين في ضلال وسعر يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مسَّ سقر}..في ضلال يعذب العقول والنفوس، وفي سعر تكوي الجلود والأبدان.. في مقابل ما كانوا يقولون هم وأمثالهم من قبل: {أبشرًا منا واحدًا نتبعه إنا إذن لفي ضلال وسعر}. ليعرفوا أين يكون الضلال وأين تكون السعر!وهم يسحبون في النار على وجوههم في عنف وتحقير، في مقابل الاعتزاز بالقوة والاستكبار. وهم يزادون عذابًا بالإيلام النفسي، الذي كأنما يشهد اللحظة حاضرًا معروضًا على الأسماع والأنظار: {ذوقوا مس سقر}!وفي ظل هذا المشهد المروع المزلزل يتجه بالبيان إلى الناس كافة، وإلى القوم خاصة. ليقر في قلوبهم حقيقة قدر الله وحكمته وتدبيره..إن ذلك الأخذ في الدنيا، وهذا العذاب في الآخرة. وما كان قبلهما من رسالات ونذر، ومن قرآن وزبر. وما حول ذلك كله من خلق ووجود وتصريف لهذا الوجود..إن ذلك كله، وكل صغيرة وكبيرة مخلوقة بقدر، مصرفة بقصد، مدبرة بحكمة. لا شيء جزاف. لا شيء عبث. لا شيء مصادفة. لا شيء ارتجال: {إنا كل شيء خلقناه بقدر}.كل شيء.. كل صغير وكل كبير. كل ناطق وكل صامت. كل متحرك وكل ساكن. كل ماض وكل حاضر. كل معلوم وكل مجهول. كل شيء.. خلقناه بقدر..قدر يحدد حقيقته. ويحدد صفته. ويحدد مقداره. ويحدد زمانه. ويحدد مكانه. ويحدد ارتباطه بسائر ما حوله من أشياء. وتأثيره في كيان هذا الوجود.وإن هذا النص القرآني القصير اليسير ليشير إلى حقيقة ضخمة هائلة شاملة، مصداقها هذا الوجود كله. حقيقة يدركها القلب جملة وهو يواجه هذا الوجود، ويتجاوب معه، ويتلقى عنه، ويحس أنه خليقة متناسقة تناسقًا دقيقًا. كل شيء فيه بقدر يحقق هذا التناسق المطلق، الذي ينطبع ظله في القلب جملة وهو يواجه هذا الوجود.ثم يبلغ البحث والرؤية والتجربة من إدراك هذه الحقيقة القدر الذي تهيئه هذه الوسائل، ويطيقه العقل البشري، ويملك معرفته عن هذا الطريق. ووراء هذا القدر يبقى دائمًا ما هو أعظم وأكمل، تدركه الفطرة وينطبع فيها بتأثير الإيقاع الكوني المتناسق فيها، وهي ذاتها بعض هذا الكون المتناسق كل شيء فيه بقدر.ولقد وصل العلم الحديث إلى أطراف من هذه الحقيقة، فيما يملك أن يدركه منها بوسائله المهيأة له.. وصل في إدراك التناسق بين أبعاد النجوم والكواكب وأحجامها وكتلها وجاذبيتها بعضها لبعض إلى حد أن يحدد العلماء مواقع كواكب لم يروها بعد؛ لأن التناسق يقتضي وجودها في المواضع التي حددوها. فوجودها في هذه المواقع هو الذي يفسر ظواهر معينة في حركة الكواكب التي رصدوها.. ثم يتحقق هذا الذي فرضوه. ويدل تحقيقه على الدقة المتناهية في توزيع هذه الأجرام، في هذا الفضاء الهائل، بهذه النسب المقدرة، التي لا يتناولها خلل أو اضطراب!ووصل في إدراك التناسق في وضع هذه الأرض التي نعيش عليها، لتكون صالحة لنوع الحياة التي قدر الله أن تكون فيها إلى حد أن افتراض أي اختلال في أية نسبة من نسبها يؤدي بهذه الحياة كلها، أو لا يسمح أصلًا بقيامها. فحجم هذه الأرض، وكتلتها، وبعدها عن الشمس. وكتلة هذه الشمس، ودرجة حرارتها. وميل الأرض على محورها بهذا القدر، وسرعتها في دورتها حول نفسها وحول الشمس. وبعد القمر عن الأرض. وحجمه وكتلته. وتوزيع الماء واليابس في هذه الأرض.. إلى آلاف من هذه النسب المقدرة تقديرًا، لو وقع الاختلال في أي منها لتبدل كل شيء، ولكانت هي النهاية المقدرة لعمر هذه الحياة على هذه الأرض!ووصل في إدراك التناسق بين عدد كبير من الضوابط التي تضبط الحياة؛ وتنسق بين الأحياء والظروف المحيطة بها؛ وبين بعضها وبعض.. إلى حد يعطي فكرة عن تلك الحقيقة العميقة الكبيرة التي تشير إليها الآية. فالنسبة بين عوامل الحياة والبقاء وعوامل الموت والفناء في البيئة وفي طبيعة الأحياء محفوظة دائمًا بالقدر الذي يسمح بنشأة الحياة وبقائها وامتدادها. وفي الوقت ذاته يحد من انتشارها إلى الحد الذي لا تكفي الظروف المهيأة للأحياء، في وقت ما، لإعالتهم وإعاشتهم!ولعله من المفيد أن نشير إشارة سريعة إلى أي شيء من هذا التوازن في علاقات بعض الأحياء ببعض. إذ كنا قد أشرنا بشيء من التفصيل في سور أخرى إلى التناسق في بناء الكون، وفي ظروف الأرض.إن الجوارح التي تتغذى بصغار الطيور قليلة العدد، لأنها قليلة البيض، قليلة التفريخ، فضلًا على أنها لا تعيش إلا في مواطن خاصة محدودة. وهي في مقابل هذا طويلة الأعمار. ولو كانت مع عمرها الطويل، كثيرة الفراخ مستطيعة الحياة في كل موطن، لقضت على صغار الطيور وأفنتها على كثرتها وكثرة تفريخها. أو قللت من أعدادها الكبيرة اللازمة بدورها لطعام هذه الجوارح وسواها من بني الإنسان، وللقيام بأدوارها الأخرى، ووظائفها الكثيرة في هذه الأرض!
وذلك للحكمة التي قدرها الله كما رأينا، كي تتعادل عوامل البقاء وعوامل الفناء بين الجوارح والبغاث!والذبابة تبيض ملايين البويضات. ولكنها لا تعيش إلا أسبوعين. ولو كانت تعيش بضعة أعوام، تبيض فيها بهذه النسبة لغطى الذباب وجه الأرض بنتاجه؛ ولغدت حياة كثير من الأجناس- وأولها الإنسان- مستحيلة على وجه هذه الأرض. ولكن عجلة التوازن التي لا تختل، في يد القدرة التي تدبر هذا الكون، وازنت بين كثرة النسل وقصر العمر فكان هذا الذي نراه!والميكروبات- وهي أكثر الأحياء عددًا، وأسرعها تكاثرًا، وأشدها فتكًا- هي كذلك أضعف الأحياء مقاومة وأقصرها عمرًا. تموت بملايين الملايين من البرد، ومن الحر، ومن الضوء، ومن أحماض المعدات، ومن أمصال الدم، ومن عوامل أخرى كثيرة. ولا تتغلب إلا على عدد محدود من الحيوان والإنسان. ولو كانت قوية المقاومة أو طويلة العمر لدمرت الحياة والأحياء!وكل حي من الأحياء مزود بسلاح يتقي به هجمات أعدائه ويغالب به خطر الفناء. وتختلف هذه الأسلحة وتتنوع. فكثرة العدد سلاح. وقوة البطش سلاح. وبينهما ألوان وأنواع..الحيات الصغيرة مزودة بالسم أو بالسرعة للهرب من أعدائها. والثعابين الكبيرة مزودة بقوة العضل، ومن ثم ينذر فيها السام!والخنفساء- وهي قليلة الحيلة- مزودة بمادة كاوية ذات رائحة كريهة، تصبها على كل من يلمسها، وقاية من الأعداء!والظباء مزودة بسرعة الجري والقفز، والأسود مزودة بقوة ألباس والافتراس!
|